أظهرت بيانات جديدة صادرة عن معهد الإحصاء الأوروبي “يوروستات” في 11 يوليو 2025 أن الهجرة أصبحت العامل الوحيد الذي يدفع عجلة النمو السكاني في دول الاتحاد الأوروبي، في وقت تشهد فيه القارة اتجاها متصاعدا نحو تشديد القيود على المهاجرين. وتشير الأرقام إلى أن الوفيات في الاتحاد تفوق عدد المواليد بحوالي 1.3 مليون حالة سنويا، مما يعزز اعتماد أوروبا بشكل شبه كامل على المهاجرين لتعويض هذا العجز الديمغرافي.
وبحسب الأرقام، بلغ عدد سكان الاتحاد الأوروبي مع بداية يناير/كانون الثاني 2025 نحو 450.4 مليون نسمة، بزيادة تقدر بنحو مليون شخص عن العام السابق. ومع ذلك، فإن هذه الزيادة لم تكن نتيجة نمو طبيعي، بل جاءت نتيجة صافي الهجرة الإيجابي الذي بلغ 2.3 مليون شخص عام 2024، مقارنة بـ1.3 مليون في 2023، ما ساهم في تعويض الانخفاض في عدد السكان الناتج عن تفوق الوفيات على المواليد.
ووثقت البيانات أن حالات الوفاة في دول الاتحاد الأوروبي بلغت العام الماضي 4.82 ملايين، مقابل 3.56 ملايين حالة ولادة. ويؤكد هذا الفارق أن مستقبل النمو السكاني في القارة بات مرتبطا بشكل مباشر بمعدلات الهجرة. وقد حذرت تقارير صحفية، من بينها تقرير لصحيفة “تلغراف” البريطانية، من أن أوروبا مقبلة على أزمة ديمغرافية حادة، ما لم تتمكن من دعم مستويات الهجرة، في ظل تراجع معدلات الخصوبة وشيخوخة متسارعة بين السكان.
وفي تناقض لافت مع هذه الحاجة المتزايدة للهجرة، تسير عدة حكومات أوروبية في اتجاه تضييق الخناق على المهاجرين، وهو ما يرجعه مراقبون إلى تصاعد المخاوف الشعبية من الأجانب، التي أسهمت في صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في مختلف أنحاء القارة.
تقرير صادر عن موقع “آر إف برلين” أوضح أن نسبة الأفراد المولودين في الخارج داخل دول الاتحاد الأوروبي ارتفعت من 13.6% في عام 2023 إلى 14.1% في عام 2024، أي ما يعادل 63 مليون شخص من أصل السكان الإجمالي. وشهدت دول مثل ألمانيا وإسبانيا وفرنسا وإيطاليا زيادات متسارعة في أعداد المقيمين الأجانب. ففي ألمانيا وحدها، ارتفع عدد المهاجرين من 11 مليونا في 2015 إلى 17.4 مليونا في 2024، ما يعادل 20.9% من السكان. وفي إسبانيا، ارتفع العدد من 5.9 ملايين إلى 8.8 ملايين خلال الفترة نفسها.
وبحسب يوروستات، فإن الهجرة الإيجابية هي التي سمحت لأعداد السكان بالارتفاع مجددا بعد انخفاض سجل في عام 2021 نتيجة لجائحة كوفيد-19 وما رافقها من قيود على التنقل. وتُظهر الأرقام أن الدول التي سجلت أعلى نسب نمو سكاني هي أيضا تلك التي استقبلت أكبر عدد من المهاجرين، مثل مالطا التي حققت معدل نمو بلغ 19 لكل ألف نسمة، مع صافي هجرة إيجابي بلغ 18.7 لكل ألف. في المقابل، سجلت دول مثل لاتفيا والمجر، ذات السياسات الأكثر تشددا في ملف الهجرة، أكبر معدلات انخفاض في عدد السكان.
وتعزز حالة فرنسا هذا التوجه، إذ تظهر البيانات أن الهجرة شكلت في عام 2022 حوالي 75% من نمو السكان. ووفق تقرير لصحيفة “لاكروا”، فإن عدد المهاجرين في فرنسا بلغ 7 ملايين، ما يمثل 10.3% من إجمالي السكان. ويشير باحثون إلى أن تباطؤ معدلات الولادة وارتفاع متوسط العمر باتا يهددان النمو الديمغرافي الفرنسي، وهو ما دفع مؤسسات بحثية مثل معهد مونتين إلى التحذير من أن الهجرة هي الخيار الوحيد للحفاظ على التوازن السكاني.
لكن هذه المعطيات تصطدم بتصاعد نفوذ اليمين المتطرف الذي يروّج لنظريات مثل “الاستبدال العظيم”، والتي تثير المخاوف من أن تحل الهجرة محل السكان الأصليين، وتُستخدم كورقة سياسية لدفع سياسات أكثر تقييدا. ومع أن فرنسا لا تزال تحتفظ بمعدلات سكانية مستقرة مقارنة ببعض جيرانها، إلا أن التباطؤ الديمغرافي الذي تسجله يشير إلى بداية تحوّل طويل الأمد قد يصعب تفاديه دون اعتماد سياسات هجرة أكثر مرونة.
على المستوى الأوروبي العام، يحذر تقرير لصحيفة “الغارديان” من أن استمرار تراجع عدد السكان الأصليين، مقرونا بصعود التيارات المناهضة للهجرة، قد يؤدي إلى تداعيات اقتصادية واجتماعية ثقيلة. وتشير التوقعات إلى أنه في حال توقفت الهجرة، فإن عدد السكان في بعض الدول مثل إيطاليا وألمانيا قد ينخفض إلى النصف بحلول نهاية القرن الحالي. وفي فرنسا، قد ينخفض عدد السكان من 68 مليونا إلى 59 مليونا في غياب تدفقات الهجرة.
وتبرز الهجرة في هذا السياق كأداة مهمة للحد من آثار شيخوخة السكان، إذ تشير التقديرات إلى أن نسبة من هم فوق 65 عاما في الاتحاد الأوروبي سترتفع من 21% حاليا إلى 36% بحلول عام 2100 في حال تقليص الهجرة. هذا الوضع سيؤدي إلى زيادة الضغط على أنظمة الرعاية الصحية والمعاشات التقاعدية، إلى جانب انخفاض عدد العاملين وتقلص قاعدة دافعي الضرائب.
وتشهد بعض المناطق الأوروبية بالفعل تداعيات هذه الأزمة، كما في قرية “كاميني” الإيطالية، التي لجأت إلى برنامج لإعادة توطين اللاجئين لإنقاذها من الانقراض السكاني. وقد أسهم المشروع في استقدام مهاجرين أعادوا افتتاح المدرسة المحلية وساهموا في إنعاش الحياة الاقتصادية والاجتماعية في القرية.
مع ذلك، يرى بعض الخبراء أن الهجرة ليست حلا كاملا للمشكلة، إذ يتطلب الأمر إلى جانبها إصلاحات هيكلية تشمل رفع معدلات التوظيف، تأخير سن التقاعد، وإعادة تنظيم نظام المعاشات. كما يشيرون إلى أن نجاح الهجرة في دعم الاقتصاد مرتبط بقدرة الدول على إدماج المهاجرين في سوق العمل بشكل فعال، وهو ما لا يتحقق دائما.
المصدر: الجزيرة
اقرأ أيضًا :كيبيك تطلق برنامج جديد للعمال المهرة وتجمد لم الشمل حتى 2026